تفسير رؤية الميت بتفسيرات خاطئة

فمن النَّاس مَن إذا رأى قريبَه الميت في المنام ابتدر إلى ذهنه أنَّ هذا الميتَ محتاجٌ إلى الصَّدَقة فيتصدَّق عنه ويحتسب الأجرَ لذلك الميِّت، وربَّما قيل ذلك معتقدًا الوجوب، ومنهم مَن يظنُّ أنَّ رؤيةَ الميِّت تدلُّ على أنَّ الرَّائيَ قريبًا سيلحق بذلك الميت، فيداخله من الحزن ما الله به عليم، ومنهم مَن يفسِّرُ رؤيةَ الميت بغير ذلك من التَّفسيرات الخاطئة التي لم يعتمد بها على قول أحد من المعبرين.

وإليك كلامًا قيِّمًا للشيخ محمد بن صالح العثيمين- رحمه الله- قال: «رؤيةُ المتوفَّى في المنام إن كانت على وجه طيِّب فإنَّه يرجَى له الخير، وإن كانت على غير ذلك فقد يكون هذا من ضرب الأمثال من الشَّياطين؛ لأنَّ الشَّيطانَ حريصٌ على كلِّ ما يدخل الحزن والهم والغم على المؤمنين؛ لقوله تعالى: }إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ{.

وعلى هذا فالإنسان إن رأى ما يكره في منامه بالنِّسبة للميِّت فإنَّه ينبغي له أن يتعوَّذَ بالله من شَرِّ الشَّيطان، ومن شرِّ ما رأى، وألَّا يحدِّث أحدًا بما رآه في هذا الميِّت، وحينئذ لا يضرُّه شيء، وهكذا كلُّ مَن رأى في منامه ما يَكره فإنَّ المشروعَ له أن يتعوَّذَ بالله من شَرِّ الشيطان ومن شرِّ ما رأى، وأن يَتْفُلَ عن شماله ثلاث مرات، وأن ينقلب من جنبه الذي كان نائمًا عليه إلى الجنب الآخر، وإن توضأ وصلَّى فهو أطيب وأفضل، ولا يحدِّث أحدًا بما رأى، وحينئذٍ لا يضرُّه ما رأى»([1]).

واعلم أيُّها الأخُ المسلم أن مفهومَ قوله r: «إنَّ الشَّيطانَ لا يَتَمَثَّل بي»([2]) يدلُّ على أنَّ الشيطانَ قد يتمثَّل بغيره؛ فقد يأتيك الشَّيطان في المنام على صورة أبيك أو أمِّك أو أحد أمواتك ويسبِّب لك الحزنَ والكآبةَ؛ فعليك أن تنتبهَ أنَّ ذلك قد يكون مجرَّدَ حديث نفس؛ لإكثارك من التَّفكير بميِّتك؛ فإنَّ النَّبيَّ r أخبر أنَّ: «الرؤيا ثلاثة: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدِّث المرء نفسه»([3]).

([1])فتاوى إسلامية (4/341).

([2])رواه مسلم في كتاب الرؤيا (شرح النووي 15/36 برقم 2266).

([3])رواه مسلم في كتاب الرؤيا (شرح النووي 15/30 برقم 2263).

اعتقادُ البعض أنَّ الرُّؤيا الصَّادقة تدلُّ على صدق وصلاح الرَّائي

من الأشخاص مَن يتسرَّب إلى نفسه العجبُ والغرورُ إذا صَدَقَتْ رؤياه يومًا من الأيام فتجده يذكر لغيره تلك الرُّؤيا التي صدقت على مدى الشُّهور والأعوام معتقدًا أنَّ ذلك دالٌّ على استقامته وتقواه، ومَنْ تأمَّل القرآنَ الكريمَ وَجَدَ أنَّ صدقَ الرُّؤيا حدث لبعض الكافرين؛ ممَّا يدلُّ على أنَّ صدقَ الرُّؤيا ليس خاصًّا بالمؤمنين المتَّقين، وأمَّا قوله: «أصدقُكم رؤيا أصدقُكم حديثًا»([1])، فهذا لا يعني الحصر؛ وإنَّما يفيد أنَّ الحكمَ على الأغلب، ويُقال أيضًا: إن صدق الحديث قد يحدث من الكافرين؛ قال الحافظ- رحمه الله: وقد وَقَعَت الرُّؤيا الصَّادقة من بعض الكفَّار كما في رؤيا صاحبي السِّجن مع يوسف u، ورؤيا ملكهما، وغير ذلك. وقال القُرطبيُّ: وأمَّا الكافرُ والفاسقُ والمخلط فلو صدقت رؤياهم أحيانًا فذاك كما قد يصدَّق الكذوب ([2]).

قد يرى الإنسانُ في منامه رؤيا فيتبادَر إلى ذهنه أنَّها تدلُّ على كذا وكذا، فيفزع أو يطمئنّ لما وقع في نفسه من ذلك التَّفسير، وربَّما جزم به وبنى عليه بعضَ الأحكام، ولو كان عالماً بتعبير الرُّؤَى لوجدت له عذرًا؛ لكنَّه لا يعرف في تأويلها شيئاً سوى الأوهام والتَّخَرُّصات التي أصبحت عنده حقائقَ لا تَقبل الجدل؛ وهنا يتبيَّن لك أهميَّةُ عرضها على العالم بتأويل الرُّؤَى؛ حتى لا يوقعك الشَّيطانُ في شباك الأوهام والأحزان؛ فكم من رؤيا تسيطر على تفكيرك ويضطرب لها قلبُك وإذا بها خيرٌ لك في دينك أو دنياك ، وهنا يظهر لك أهميَّةُ هذا العلم ومعرفته.

وقد ذكر صاحب كتاب (تُحَف من ذخائر السَّلَف) أمثلةً على أنَّ الإنسانَ لا ينبغي له أن يتسرَّع في الأخذ بظاهر الرُّؤيا مطلَقًا؛ فكان ممَّا قال:

(حُكي أنَّ رجلاً من القرَّاء أتى في منامه كأنَّه يقطع ورقةً من المصحف فيضعها على النَّار فيسكن لهبها، فرفعها إلى بعض المعبرين فقال: ستكون فتنةً من جهة السُّلطان وتسكن بقراءتك القرآن).

فانظر كيف أنَّ ظاهرَ هذه الرُّؤيا مخيفٌ وموحشٌ وتعبيرُها ضدُّ ذلك؛ لو خُضْنا في هذه الرُّؤيا مع الخائضين لقلنا: نعوذ بالله؛ فلان رأى أنَّه يقطع أوراقَ المصحف ويَحرقها بالنَّار، ثمَّ بَنَيْنَا على هذا اعتقادَ سوء في الشَّخص وتبع ذلك آثار من المعاداة والتَّحذير..

من جنس ما تقدَّمَ ما حُكي أنَّ هارونَ الرَّشيد رأى ملكَ الموت u قد مُثِّل له فقال له: يا ملكَ الموت، كم بقي من عمري؟ فأشار إليه بخمس أصابع كفِّه مبسوطة، فقام مذعورًا من رؤياه وقصَّها على حجَّام موصوف بالتَّعبير فقال: يا أميرَ المؤمنين قد أخبرك أن خمسة أشياء علمها عند الله تجمعُها هذه الآية: }إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{ [لقمان: 34].. فضحك هارون وفرح بذلك؛ فانظر كيف ظنَّ هارون أنَّه لم يبقَ من عمره إلَّا خمسة أيام، فإن طالت فخمسة أشهر، وإن طالت فخمس سنين، ولا يريد ذلك؛ يريد أن يتمتَّعَ في ملكه، والمرادُ أنَّ الأمرَ ليس على ما يبدو من الظَّاهر….([3]).

([1])رواه مسلم في كتاب الرؤيا برقم (2263).

([2])انظر الفتح (12/449).

([3])تحف من ذخائر السلف ص81.