إنَّ من الجهل أن يتصوَّر الإنسان أنَّ تفسيرَ الرُّؤيا من علم الغيب الذي اختصَّ الله به، فنتج عن هذا الخطأ الغُلُوُّ في المفسِّر الذي يَصْدُقُ تعبيرُه؛ فمنهم مَن رَفَعَه إلى منزلة الأنبياء، ومنهم مَن جَعَلَ له شيئًا من خصائص الألوهيَّة، مع أنَّ ذلك المفسِّرَ اعتمد في تفسيره على طرق واستدلالات معيَّنة يمكن معرفتها، وقد ذكر ابنُ القَيِّم والقرطبيُّ- رحمهما الله- كلامًا نفيسًا في كيفيَّة تفسير الرُّؤيا والاستدلال بالشَّيء على نظيره، رأيتُ من المناسب ذكرُه حتى يكون القارئ على علم من تفسير الرؤى وحتى لا يتلاعب به المتخرِّصون عند تعذُّر العالم المعبِّر، وإن كان بعضُها سيختلف تأويلُها باختلاف الرَّائي وأحواله.
مواقع معتمدة لتفسير الاحلام
قال ابنُ القيِّم([1]): (بل هذا أهل عبارة الرُّؤيا التي هي جزء من أجزاء النُّبُوَّة ونوع من أنواع الوحي؛ فإنها مبنيَّةٌ على القياس والتَّمثيل واعتبار المعقول بالمحسوس؛ ألا ترى أنَّ الثِّياب في التَّأويل كالقمُص تدلُّ على الدِّين؛ فما كان فيها من طول أو قصر أو نظافة أو دَنَس فهو في الدِّين كما أوَّل النَّبيُّ r القميصَ بالدِّين والعلم، والقدرُ المشترك بينهما أنَّ كلاًّ منهما يستر صاحبَه ويُجمِّله بين الناس؛ فالقميصُ يستر بدنَه والعلم والدِّين يستر روحَه وقلبَه ويُجَمِّلُه.
ومن هذا التَّأويل اللَّبَن بالفطرة؛ لما في كلٍّ منهما من التَّغذية الموجبة للحياة وكمال النَّشأة، وأنَّ الطفلَ إذا خُلّي وفطرته لم يعدل عن اللَّبن؛ فهو مفطورٌ على إيثاره على ما سواه، وكذلك فطرةُ الإسلام التي فَطَرَ اللهُ عليها النَّاس.
ومن هذا تأويلُ البقر بأهل الدِّين والخير الذين بهم عمارةُ الأرض؛ كما أنَّ البقرَ كذلك، مع عدم شرِّها وكثرة خيرها وحاجة الأرض وأهلها إليها؛ ولهذا لما رأى النَّبيُّ r بقرًا تنحر كان ذلك نحرًا في أصحابه.
ومن ذلك تأويلُ الزَّرع والحرث بالعمل؛ لأنَّ العاملَ زارعٌ للخير والشَّرِّ، ولابدَّ أن يخرج له ما بذرَه كما يخرج للباذر زرع ما بذره؛ فالدُّنيا مزْرَعة، والأعمال البذر، ويومُ القيامة يوم طلوع الزَّرع للباذر وحصاده.
ومن ذلك تأويلُ الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين، والجامع بينهما أنَّ المنافقَ لا روحَ فيه ولا ظلَّ ولا ثمرَ؛ فهو بمنزلة الخشب الذي هو كذلك، ولهذا شبَّه الله تعالى المنافقين بالخُشُبُ المُسنَّدة؛ لأنَّهم أجسامٌ خاليةٌ عن الإيمان والخير، وفي كونها مسندة نكتة أخرى؛ وهي أنَّ الخشبَ إذا انتفع به جعل في سقف أو جدار أو غيرها من مظانِّ الانتفاع، وما دام متروكًا فارغًا غيرَ منتَفَع به جعل مُسندًا بعضُه إلى بعض؛ فشبه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع فيها بها.
ومن ذلك تأويل النَّار بالفتنة لإفساد كلٍّ منهما ما يمرُّ عليه ويتَّصل به؛ فهذه تحرق الأثاثَ والمتاعَ والأبدانَ، وهذه تحرق القلوبَ والأديانَ والإيمانَ.
ومن ذلك تأويلُ النُّجوم بالعلماء والأشراف؛ لحصول هداية أهل الأرض بكلٍّ منهما، ولارتفاع الأشراف بين الناس كارتفاع النُّجوم.
ومن ذلك تأويلُ الغيث بالرَّحمة والعلم والقرآن والحكمة وصلاح حال الناس.
ومن ذلك خروج الدم في التَّأويل على خروج المال، والقدر المشترك أن قوام البدن بكل واحد منهما.
ومن ذلك الحَدثُ في التأويل يدل على الحدث في الدين؛ فالحدث الأصغر ذنب صغير والأكبر ذنب كبير.
ومن ذلك أنَّ اليهوديَّةَ والنَّصرانيَّةَ في التَّأويل بدعة في الدين؛ فاليهوديَّةُ تدلُّ على فساد القصد واتِّباع غير الحقّ، والنَّصرانيَّةُ تدلُّ على فساد العلم والجهل والضَّلال.
ومن ذلك الحديد في التَّأويل وأنواع السِّلاح يدلُّ على القوَّة والنَّصر بحسب جوهر ذلك السِّلاح ومرتبته.
ومن ذلك الرَّائحةُ الطَّيِّبة تدلُّ على الثَّناء الحسن وطيب القول والعمل، والرائحة الخبيثة بالعكس، والميزان يدلُّ على العدل، والجراد يدلُّ على الجنود والعساكر والغَوْغاء الذين يمُوجُ بعضهم في بعض، والنَّحلُ يدلُّ على مَنْ يأكل طيِّبًا ويعمل صالحًا، والدِّيك رجل عالي الهمة بعيدُ الصِّيت، والحيَّة عدو أو صاحب بدعة يهلك بسمِّه، والحشرات أوغاد الناس، والخلد رجل أعمى يتكفَّفُ الناس بالسؤال، والذئب رجل غشوم ظلوم غادر فاجر، والثعلب رجل غادر مكَّار محتال مراوغ عن الحقِّ، والكلب عدول ضعيف كثير الصخب والشر في كلامه وسبابه، أو رجلٌ متَّبع هَواه مؤثرٌ له على دينه، والسّنَّوْرُ العبد والخادم الذي يطوف على أهل الدَّار، والفأرة امرأةُ سوء فاسقة فاجرة، والأسد رجل قاهر مسلّط، والكبش الرجل المنيعُ المَتبُوع.
ومن كلِّيَّات التعبير أنَّ كلَّ ما كان وعاء للماء فهو دالٌّ على الأثاث، وكلَّ ما كان وعاءً للمال كالصُّندوق والكيس والجراب فهو دالٌّ على القلب، وكلَّ مدخول بعضه في بعض وممتزج ومختلط فدالٌّ على الاشتراك والتَّعاون أو النِّكاح، وكلَّ سقوط وخرور من عُلُوٍّ إلى سفل فمذموم، وكلَّ صُعُود وارتفاع فمحمود إذا لم يجاوز العادة وكان ممَّن يليق به، وكلَّ ما أحرقته النارُ فجائحة وليس يُرجى صلاحُهُ ولا حياته، وكذلك ما انكسر من الأوعية التي لا ينشعب مثلُها، وكلَّ ما خُطف وسُرق من حيث لا يرى خاطفه ولا سارقه فإنَّه ضائعٌ لا يُرجَى، وما عرف خاطفُه أو سارقُه أو مكانُه أو لم يغيب عن عين صاحبه فإنَّه يرجَى عودُه، وكلَّ زيادة محمودة في الجسم والقامة واللِّسان والذِّكر واللِّحية واليد والرِّجل فزيادة خير، وكلَّ زيادة متجاوزة للحَدِّ في ذلك فمذمومةٌ وشرٌّ وفضيحةٌ، وكلَّ ما رُئي من اللِّباس في غير موضعه المختصِّ به فمكروهٌ؛ كالعمامة في الرِّجل والخفِّ في الرأس والعقد في السَّاق، وكلَّ مَن استقضى أو استخلف أو أمر أو استوزر أو خطب ممَّن لا يليق به ذلك نال بلاءً من الدُّنيا وشرًّا وفضيحةً وشهرةً قبيحةً، وكلَّ ما كان مكروهًا من الملابس فخَلِقُه أهونُ على لابسه من جديده، والجوز مال مكنوز؛ فإن تفقَّع كان قبيحًا وشرًّا، ومن صار له ريش أو جناح له مال، فإن طار سافر.
وخروجُ المريض من داره ساكنًا يدلُّ على موته، ومتكلِّمًا يدلُّ على حياته، والخروجُ من الأبواب الضَّيِّقة يدلُّ على النَّجاة والسَّلامة من شرٍّ وضيق هو فيه، وعلى توبة، ولا سيَّما إن كان الخروجُ إلى فضاء وسَعَة؛ فهو خيرٌ محضٌ، والسَّفر والنّقلة من مكان إلى مكان انتقالٌ من حال إلى حال بحسب حال المكانين، ومن عاد في المنام إلى حال كان فيها في اليقظة عاد إليه ما فارقه من خير أو شرٍّ، وموتُ الرجل ربَّما يدلُّ على توبته ورجوعه إلى الله؛ لأنَّ الموتَ رجوعٌ إلى الله؛ قال تعالى: }ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ{. والمرهونُ مأسورٌ بدَيْن أو بحقٍّ عليه لله أو لعبيده، وودَاعُ المريض أهله أو توديعهم له دالٌّ على موته.